تحوّل “تويتر” إلى أسرع مرآة عن الواقع، وبُنيت عليه استراتيجيّات التداول في الأسواق الماليّة. لكنّ هشاشة هذا البنيان ظهرت في أوّل اختراق. فكيف يمكن لسوق ماليّة أن تنهار بتغريدة؟
في عصرنا هذا، يدور سباق شبه خفيّ بين أكبر الشركات والدول للإجابة على سؤال واحد، وهو: “ماذا يحصل الآن في العالم؟”. بطبيعة الحال لا يمكن للعقل البشري الإجابة على هذا السؤال دون أخذ وقت في البحث والتدقيق. فالإنسان محدود بالمكان، والقدرات العقليّة، وبإمكانيّة وصوله إلى مصادر المعلومات.
وبما أنّ وسائل الإعلام التقليدية كالراديو والتلفزيون تعتمد على الكادر البشري للإجابة على السؤال أعلاه، فبطبيعة الحال سيكون هناك فارق زمني بين حصول الحدث من جهة ومعرفتها بالحدث من جهة أخرى.
وبناء على هذا الفارق الزمني، قد يتغيّر كلّ شيء. فلنأخذ أحداث ١١ أيلول كمثال. فقد انحدر سعر سهم United Airlines بنسبة ٤٢٪ بعد إعادة افتتاح البورصة في ١٧ أيلول، كما تراجع سهم American Airlines بنسبة ٣٩٪. إذاً هناك من خسروا أكثر من ثلث استثماراتهم في مثل هذه الشركات بين ليلة وضحاها. لكن ماذا لو أنّه بمجرّد حدوث الهجوم، باع بعض هؤلاء المستثمرين كلّ أسهمهم؟ قد ينجحون عندها في تجنّب الكارثة.
هذا المثال وغيره هو الذي يدفع عالم الاقتصاد، اليوم، في ذلك السباق لتقليص الفارق الزمني عينه بين الحدث ومعرفة الحدث. ولذلك بدأ السؤال عن أسرع مرآة للواقع في هذا العصر، وكانت الإجابة مزيجاً بين وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها تويتر ثمّ فايسبوك، وبين التقنيّات الجديدة التي تتيح تحليل كمّ هائل من المعلومات في غضون ثوانٍ.
ما هي سرعة تويتر؟
يتفوّق تويتر على فايسبوك كمصدر للمعلومة السريعة، ولهذا عدّة أسباب، منها أنّه من السهل الوصول إلى رأي أيّ كان عبر خاصّية البحث أو الوسم (الهاشتاغ). وبالنسبة للّذين يعملون على تحليل التغريدات من خلال برامج الحاسوب، فإنّ تويتر منجم مهمّ وكبير لأنّ الشركة تخوّل المبرمجين الوصول إلى التغريدات العامّة بشكل سهل، وهو ما لا تتيحه فايسبوك لدواعي خصوصيّة المستخدمين.
ومع أنّ فايسبوك قد بدأت مؤخّراً بتوفير خاصيّة البحث للمعلنين في النصوص التي تُنشر على الموقع، إلّا أنّ هذه الخاصّية تقتصر على معرفة العموميّات. فمثلاً، يمكن لشركات تصنيع الألبسة معرفة نوعيّة الثياب التي يتحدّث عنها جمهور معيّن كي تأخذ ذلك في الاعتبار، أو مثلاً يمكنها التعرّف على مدى إيجابيّة المنشورات التي يرد فيها اسم الشركة، لتقيّم رأي الجمهور فيها.
لكنّ تفوّق تويتر يكمن في أنّه يتيح للبرامج أن تحصل على التغريدات مباشرة بعد نشرها، وهنا تبدأ مرحلة التحليل، حيث يمكن للشركات أن تصنع الفارق من خلال الذكاء الذي تطوّره في برامجها ومن خلال سرعتها في تنقية المعلومات للوصول إلى ما هو مهمّ وجديد وموثوق.
عشرون دقيقة
ولمن يبحث عن رقم يقيّم به سرعة تويتر وتفوّقه على وسائل الإعلام التقليديّة، فالرقم هو “عشرون دقيقة”. قد يقول البعض إنّ هذا رقم غير علمي، لكنّه، بأيّ حال، شاع على خلفيّة أحد أهمّ الأحداث في العقد السابق، وهو مقتل أسامة بن لادن.
فقد استطاعت شركة تحليل الداتا DataMinr أن تعلن لمستخدميها هذه المعلومة المهمّة، قبل أيّ موقع إخباري بعشرين دقيقة. السرّ كان في أنّها وقعت على ١٩ تغريدة تتعلّق بهذا بالموضوع في وقت قصير، كان أوّلها من مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأميركيّة. وقد كانت لهؤلاء المستخدمين إمكانيّة البناء على هذه المعلومة لاتّخاذ إجراءات سريعة تتعلّق بأموالهم وأسهمهم.
تويتر يقرّر تعاملات البورصة
وبما أنّ لتويتر خاصّية السرعة في فهم الواقع ومعرفة الأحداث، قرّر العاملون في مجال البورصة والمال، أنّه قد يكون مفتاح نجاحهم في إجراء العمليّات الماليّة من بيع وشراء للأسهم في الوقت الصحيح لزيادة الأرباح. ولذلك بدأت الأبحاث في هذا المجال.
فعلى سبيل المثال، قام باحثون من جامعة إنديانا الأميركيّة بجمع ٩ ملايين تغريدة من عام ٢٠٠٨، وعمدوا إلى تصنيفها إلى عدّة أنواع: الهادئة، والمتأهّبة، والواثقة، والحيويّة، واللطيفة، والسعيدة. ووصلوا إلى نتيجة أنّ مؤشّر الهدوء على تويتر قادر على توقّع التغييرات في مؤشّر Dow Jones الصناعي بدقّة ٨٧،٦٪. دراسة أخرى من جامعة Pace في نيويورك أظهرت تناسباً بين شعبيّة بعض العلامات التجاريّة من جهة، والتي قيست بناء على عدد المتابعين على فايسبوك وتويتر والمشاهدين على يوتيوب، وبين أداء أسهمها في البورصة من جهة أخرى.
وبناء على هذه الأبحاث وغيرها، أُخذ القرار: بات تويتر وغيره عوامل أساسيّة في حركة التعاملات الماليّة. ولمن لا يعرف هذا العالم، ليس الناس وحدهم من يبيعون ويشترون في البورصة، إذ يبرز ما يسمّى بالتداول الآلي (Algorithmic Trading)، حيث تجري الحواسيب عمليّات التبادل دون وسيط بشري، بناء على مجموعة من التعليمات المبرمجة، التي تحدّد السعر والكمّية التي تجري عندهما العمليّة. وقد باتت تغريدات النّاس من صلب هذه التعليمات.
فمثلاً، يمكن برمجة الحاسوب للتعامل مع أيّ صعود مفاجئ في الآراء السلبيّة تجاه شركة ما، أو مع موت شخص مهمّ في الشركة. وهذا ما حصل مثلاً مع شركة “آبل” بعد وفاة مؤسّسها ستيف جوبز، حيث انحدر سعر سهمها بنسبة ٥٪. وكذلك يمكن الاستفادة من أبسط التغييرات التي لا يلاحظها الناس بناء على أحداث صغيرة، عبر ما يسمّى بالتداول العالي التردّد، ففي أجزاء من الثانية يمكن تحقيق مكاسب صغيرة تتراكم مع الوقت.
خسارة ١٣٩ مليار دولار بتغريدة
وبالرّغم من سرعة ما يعطيه تويتر، إلّا أنّ تحليل التغريدات مثل توقّع أحوال الطقس: كلاهما عرضة للخطأ في بعض الأحيان. فقد تفشل المعطيات في توقّع ما سيحويه الآيفون القادم مثلاً، ويخسر من بالغ في الإيجابيّة واشترى أسهماً في “آبل” إن لم يكن الهاتف على قدر التوقّعات. لكنّ هذه خسائر يمكن احتمالها، تماماً كمن يخرج من منزله من دون مظلّة بناء على تقديرات بيوم مشمس، ثمّ تتبلّل ملابسه.
المقارنة تنتهي عند هذا الحدّ. إذ أنّ تويتر، بعكس نظام الكون، يمكن للبشر أن يعدّلوا مسار الأمور فيه بطريقة دراماتيكيّة، مثل أن تنخدع كلّ التعاملات الآليّة بخبر كاذب مثلاً. وهذا ما جرى تحديداً في ٢٣ نيسان ٢٠١٣، حين غرّدت وكالة “أسوشيتد برس” بخبر على تويتر يقول: “عاجل: انفجاران في البيت الأبيض وإصابة باراك اوباما”، وفي غضون خمس دقائق، أعيد تغريد الخبر أكثر من ٤٠٠٠ مرّة.
تنبّهت الحواسيب التي تحلّل التغريدات على تويتر إلى حجم ذلك الخبر وأثره السلبي بناء على فهمها للّغة ولأهمّيّة الشخص المعنيّ. بدأ التداول الآلي بسرعة مجنونة. آلاف التعاملات التلقائيّة جرت في غضون ثوانٍ لتدارك الأمر. والنتيجة: انخفض مؤشّر Dow Jones الصناعي ١٤٣،٥ نقطة وانخفضت قيمة مؤشّر “Standard & Poor’s 500” بأكثر من ١٣٦ مليار دولار.
بالطبع، لم يكن الخبر صحيحاً، بل كان نتيجة اختراق حساب الوكالة على تويتر من مجموعة عرّفت عن نفسها بـ “الجيش السوري الإلكتروني”. وفي غضون دقائق من اكتشاف هذا الاختراق أعادت الأسواق تعديل الأمور إلى ما كانت عليه. لكنّ هذه الحادثة كشفت مدى هشاشة الاعتماد على الحواسيب والخوارزميات في سوق التعاملات الماليّة.
وهو ما قام بتحليله مؤخّراً تيرو كاربي من جامعة بوفالو في نيويورك وكايت كروفورد من مايكروسوفت. يلفت الباحثان إلى أنّ كلّ البرامج التي تستخدمها الشركات في مراقبة وسائل التواصل هي بمثابة أسرار تجاريّة لها، وبالتالي لا يمكن معرفة كيفيّة اتخاذها للقرارات. أي أنّ مصير البورصات بالحقيقة مبنيّ على برامج وضعها بعض الأشخاص، ولا يمكن للعالم الذي يتأثّر بانهيار الأسواق أن يفهم ماذا حصل بالتحديد. وفي هذا المجال يشبّه كرابي أثر التغريدات بكوب من الحليب انسكب على الطاولة، وبدأ بالانتشار. ومع تصاعد الثقة في مصدر التغريدة، تصبح الحال كمن رفع الطاولة من جهة واحدة بعد انسكاب الحليب.
ما الحلّ؟
لا يحاول الباحثون القول بضرورة التوقّف عن مراقبة وسائل التواصل لرفد القرارات في الأسواق الماليّة. بتفكير مادّي بحت، قد يقول البعض إنّ الأرباح التي تُجنى يوميّاً نتيجة هذه الاستراتيجيّة قد تعوّض الخسائر المحتملة عند حدوث أمر يضلّل أنظمة التحليل. لكن هي مجرّد دعوة للمراجعة، قد تنتج عنها أنظمة جديدة أذكى، تأخذ في الاعتبار إمكانيّة الاختراق، وتحاول التيقن من كون التغريدة صحيحة بمقارنة ذكيّة بين مصادر عدّة، أو باعتماد تحليل الأسلوب، لمعرفة إمكانيّة نسبة التغريدة إلى الحساب. لكن هذه تقنيّات يمكن خداعها أيضاً في لعبة القطّ والفأر بين المهاجمين والمدافعين. وعليه، يبقى حلّ هذه المسألة من أعقد الأمور في المساحة بين عالمي التكنولوجيا والمال.