أثر برس

الجمعة - 29 مارس - 2024

Search

ماذا بعد اللقاء السوري- التركي في موسكو؟

by Athr Press Z

خاص|| أثر برس من المفهوم تماماً أن أي دولتين جارتين ستلتقيان، وإن كانت العداوة عميقة، وإن كانت الحساسيات كبيرة، ولو طال الزمن، ولذا فالسؤال ليس عن اللقاء نفسه بين وزيري دفاع تركيا وسوريا ورئيسي استخباراتهما، بل عن الظروف التي سبقته ورافقته، والنتائج التي تمخضت عنه. ونحن هنا نتحدث عن نزاع ساهم بتغييرات جذرية في توازنات المنطقة والعالم، ولهذا نفترض أن التعامل معه، من قبل دمشق على أقل تقدير، يتم بدقة جرَّاح القلب لا أقل من ذلك.

وإذا كان بيان الدفاع السورية قد وصف الاجتماع بالإيجابي فإن للدبلوماسية السورية تقاليداً تصف بموجبها حتى اللقاءات الكارثية بصفات جيدة، لأنها تنتظر أن تصدر السلبية من الطرف المقابل لا منها، فعلى سبيل المثال في آخر قمة جمعت الرئيس الراحل حافظ الأسد بنظيره الأمريكي بيل كلينتون، وهي القمة التي جرت في أرض محايدة في سويسرا، عام 2000، وتأكد خلالها سقوط عملية السلام التي كان كلينتون يدفع باتجاهها، وهو ما جعله يخرج من الأبواب الخلفية للفندق الذي جرت فيه القمة كي لا تحرجه وسائل الإعلام، أما الأسد الأب فقد واجه الكاميرات، وقال إن انطباعه طيّب.

لعله يمكننا البدء من قرار الاتحاد الأوربي الذي يقضي بتسقيف أسعار النفط الروسي الخام المنقول بحراً، حيث وجدتها تركيا فرصة سانحة لعرقلة مرور ناقلات النفط الروسي من مضيق البوسفور بحجة عدم اكتمال الأوراق التأمينية للسفن وحمولاتها، وتحدثت التقارير الإعلامية عن عشرات من الناقلات الروسية والكازاخستانية المتوقفة قبالة المضيق. وصدر تقرير لإحدى المحطات التركية بعنوان “انظر إلى طابور الناقلات وسترى كوباني (عين العرب)”، وكان هذا العنوان إشارة إلى تطور سبق هذا الإجراء بقليل، وهو انتشار لـ”قوات سوريا الديمقراطية- قسد” في محيط تل رفعت وعين العرب، قبالة الأراضي التركية، في رسالة تشير إلى جاهزية الجيش السوري لصد عملية تركية مرتقبة.

ويمكن القول إنه جرت معركة لي أذرع صعبة دون أن يصدر منها إلى العلن إلا الفتات. ففي نفس اليوم الذي تحدث فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن نيته للالتقاء بالرئيس بشار الأسد، صدرت افتتاحية صحيفة “الوطن” السورية -شبه الرسمية- بعنوان “لا هدايا مجانية لأردوغان” وفي هذه الافتتاحية تحدث رئيس التحرير، الأستاذ وضاح عبد ربه، عن أن لقاءً كهذا ودون تحقيق الشروط السورية ليس إلا هدية انتخابية لأردوغان، وأن دمشق ليست في وارد تقديمها له، وبسهولة نستشف من لغة المقالة أنها تتجاوز كونها تحليلاً أو رأياً إلى أن تكون رداً غير رسمي. وقيل في بعض وسائل الإعلام حينها إن روسيا تضغط على دمشق للقبول بمقترح القمة، وخرج معاون وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف لنفي ذلك، غير أن نفيه هذا يحمل في مضمونه إقراراً بأن دمشق رفضت فكرة القمة فعلاً.

وفي الجانب التركي كان هناك تيار يرفض كذلك اللقاء، فالناطق الرئاسي إبراهيم كالين، أورد عدة شروط مسبقة، ومنها اتخاذ موقف واضح من “إرهاب قسد”، والسير في الحل السياسي (بالمعايير التركية طبعاً)، مضيفاً أنه “عند تحقيق هذه الشروط يمكن لأنقرة عندها التفكير في لقاء من نوع ما، أي أنه عند تحقيق الشروط لا تعتبر أنقرة نفسها مُلزمة باللقاء، بل ستجري تقييماً وتفكر فقط”.

إن نبرة الخطاب المفرطة في تعاليها هذه تجسد التيار الذي لا يريد المصالحة مع سوريا، بل يرى أن الأفضل هو التماهي أكثر مع الإدارة الأمريكية وسياساتها ولو كان ثمن هذا مزيد من التصعيد مع القوى الإقليمية، وعلى رأسها دمشق وطهران.

اللقاء اعتمد على مبدأ رابح- رابح:

في هذه الأجواء المعقدة، حدث اللقاء على مستوى وزيري الدفاع ورئيسي الاستخبارات، وربما نكون بحاجة إلى انتظار سنوات لنعرف الآلية التي خرج بها هذا الحل إلى الوجود، وكيف قبل به الطرفان والوسيط الروسي، حيث لا توجد معلومات قطعية حول ما إن كان هذا نوعاً من الحلول الوسط أو أنها آلية فعلية لحوار مثمر، وفي هذا الصدد تقول صحيفة “الوطن” نقلاً عن مصادرها: “إنه لو لم تحصل دمشق على مطالبها لما جرى اللقاء، ولم توضح ما هي المطالب التي وضعتها كشروط للاجتماع، ورفع سوية اللقاءات من مستوى رجال الصف الثاني في المخابرات، وربما الثالث، إلى مستوى رئيسي المخابرات ووزيري الدفاع”.

بأية حال نفهم أن دمشق تعتبر نفسها في موضع أفضل من موضع الحل الوسط، واللقاء بالأساس يجسد انتقالاً في عقلية أردوغان اتجاه الملف، فبعد أن كان يصر على صيغة “الكل أو لا شيء” بات أقرب إلى صيغة “رابح- رابح” بمعنى أن يكون الطرفان رابحين بمعايير السياسة المجردة.

ولا شك أن أنقرة ستعتبر نفسها رابحاً كبيراً في حراك النقل البحري والبري عبر مصر، أو فلسطين المحتلة، وتجد هذه الخيارات البديلة مجدية اقتصادياً، لكنها لا زالت تفقد المزيد من جدواها اليوم مع ارتفاع أسعار النفط نتيجة الأزمة الأوكرانية، وهذا مربح لسوريا أيضاً لأنه سيفتح ثغرة هامة في حركة البضائع والمحروقات إلى سوريا، وسيكون هناك بالتالي انخفاض في أسعارها، إضافة إلى مرابح الترانزيت المغرية في هذا الوضعال تم فتح باب العبور البري للبضائع التركية، عبر الأراضي السورية، إلى الأردن، ومنها إلى الخليج العربي، فعبر أكثر من عقد -عمر الأزمة السورية- فشلت في العثور على بديل للأراضي السورية.

ما يعني أن الاتفاق في حال تفعيله سيشكل أكبر التفاف تم تحقيقه حتى الآن في العقوبات الغربية المفروضة على سوريا، ومن الصعب أن نكون متأكدين من الموقف الأمريكي ومدى سماح واشنطن لأنقرة بلعب دور كهذا. فعلى سبيل المثال، لم تستطع بغداد أن تتحدى واشنطن، وتفعل الخط البحري التقليدي للبضائع من مرفأ طرطوس إلى أراضيها. لكن أنقرة تمتلك بلا شك قابلية مناورة أعلى من بغداد، ولكن هذا لا يقدم إجابة قطعية على السؤال مع الأسف.

مصير الفصائل المسلحة التابعة لأنقرة شمالي سوريا:

ويبرز لدينا أيضاً تساؤل عن مصير الفصائل المسلحة التي تدعمها تركيا، فمن الصعب توقع أن يفرّط أردوغان في هذه الفصائل التي شكلت عصب قوته الإقليمية والعالمية مؤخراً، وجعلته يفلح في إثارة الرهبة لدى عدة عواصم، بينها الرياض، بالتهديد باستهدافها بـ”الإرهاب المتنقل والعابر للحدود”. ولا شك أن قبوله بإنهاء هذه الفصائل سيكون حدثاً كبيراً جداً على مستوى المنطقة والعالم، وهذه النقطة متداخلة مع النقطة السابقة، فإذا لم تسحب تركيا الفصائل المتحالفة معها، ولم تؤمن سيادة الدولة المركزية السورية على معابر الحدود وطرق سير الشاحنات سيخلق هذا إشكاليات عدة، فهذه الفصائل المسيطرة على المعابر ستطلب حصة من عوائد الترانزيت، كما أن دمشق ستكون، في هذه الحالة، أمام امتحان القبول بإدارة تنظيمات متمردة على القانون لمعابر حدودية، وهذا أمر لا نتوقع أن تقبله لأنه يشكل انتقاصاً لسيادتها.

اللاجئين السوريين في تركيا:

الأتراك من طرفهم يقدمون مسألة اللاجئين كقضية ذات أولوية على جدول الأعمال. ورغم أن دمشق لا تمانع مبدئياً عودة النازحين، وأغلبيتهم الساحقة لا توجد بحقهم أحكام قضائية أو مذكرات قبض، وبعضهم يمكنه الاستفادة من مراسيم العفو، والقلة القليلة فقط سجلاتها الجرمية لا تسمح لها بالعودة، ولكن أنقرة تطمح إلى ما هو أكثر من ذلك، وهو دمجهم في الحياة السياسية بالشكل الذي تريده هي، أي خلق تيار إخواني موالي لها، وأن تضمن دمشق له دوراً فاعلاً. وهنا يبرز إشكالان أمام سوريا؛ فمن جهة لا يمكن أن تقبل بتغيير المسرح السياسي بهذه السهولة، ولو كانت ستقبل لقبلت منذ الزيارة الشهيرة لأحمد داوود أوغلو، عام 2013، والتي انقطعت العلاقات بين البلدين بعدها إثر رفض الرئيس الأسد ضمان كوتا لتنظيم “الإخوان المسلمين” في حكومته. والإشكال الثاني تقني إن جاز التعبير، فسوريا التي تعجز عن توفير البنية التحتية، والخدمات الأساسية للمواطنين الموجودين لديها حالياً ستكون أعجز عندما يضاف إليهم قرابة مليون شخص عائدون من دول الجوار. ولا يبدو في الأفق المنظور أن الدول الثرية، في المنطقة والعالم، تعتبر نفسها في وارد تقديم مبالغ كبيرة لإغلاق ملف صعب كهذا. والحال هذه، يزداد تعقيد ملف النازحين مع ازدياد أزمة المحروقات والمواد الإعاشية في سوريا. وربما نتذكر هنا أنه كان هناك ملف كهذا عقب تمرد “الإخوان” في ثمانينات القرن الفائت، فقد وافقت تركيا على تجنيس الإخوانيين الموجودين لديها، وقبلت سوريا بهذا لأنها تمكنت التخلص منهم بهذه الطريقة. واليوم يظهر هذا الاحتمال أيضاً، فقد تجنس تركيا بعض من لا يمكن أن تقبل دمشق بعودتهم بتاتاً، ويستفيد أردوغان منهم انتخابياً، ويعتبر هذا الحل منطقياً ويتناسب مع قاعدة “رابح- رابح” لكنه ليس حلاً كاملاً، لأنه لا يلحظ مشكلة مئات الألوف الذين لا تعتبرهم دمشق إرهابيين، ولكنها عاجزة مادياً عن احتضانهم.

ماذا عن ملف “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” المدعومة أمريكياً؟

إن أكثر الملفات العالقة حساسية هو ملف “قسد” طبعاً. ويظهر أن الكثير من السوريين يعتقدون بإمكانية التحول إلى تحالف من نوع ما بين الجيشين التركي والسوري ضد “قسد” وهنا يجب الانتباه إلى أنه يوجد أمامنا أردوغانان اثنان:

-أردوغان رئيس الدولة والشعب التركيين، والقائد العام للجيش التركي. وهو قد يكون مفيداً لسوريا في مكافحة الخطر الانفصالي لأنه هو نفسه يواجه تحدياً مماثلاً في أرضه. وهو مؤمن بموجب العقل الجمعي للدولة التي يقودها بمفاهيم سيادة الدول والاحترام المتبادل.

-أردوغان الزعيم الإخواني، والزعيم محدث النعمة. وهو شخص يهتم بمصالحه الشخصية ومصالح جماعته على حساب مصالح دولته نفسها. ويراهن على إمكانية الاستفادة من عوائد النفط المسروق من سوريا، وكذلك القطن والقمح وسائر الثروات، وقد تحالف مع تنظيم “داعش”، في فترة من الفترات في سبيل ذلك، ولا يتورع عن التفاهم مع “قسد” أيضاً، وخاصة أن التفاهم مع “قسد” يمنحه أملاً في نيل عقود إعادة الإعمار في المناطق التي تسيطر عليها، فيما لو أرسلت الدول المانحة مساعدات مالية إلى المناطق الشمالية الشرقية أملاً في ترسيخ انفصالها عن الدولة المركزية، أما إذا انتقلت السيادة في تلك المناطق إلى الجيش السوري فلن تنال تركيا الكثير مما تأمل من عقود، هذا إن كان هناك إعادة إعمار أصلاً حينها.

أي أردوغان هو الذي تتعامل معه سوريا في هذه اللقاءات؟ وما الذي يضمن ألا يغير شخصيته في أول مفترق طرق؟ سؤال صعب بالتأكيد، والتعامل معه أشد صعوبة، وأنا شخصياً لا أتمنى أن أكون مكان صاحب القرار في دمشق، فرغم أنه يقطع خطواته في الاتجاه الصحيح غالباً إلا أنه يسير في حقل ألغام حقيقي، ونهاية الحقل لما تزل بعيدة، كان الله في عونه في معركة الأعصاب المحروقة هذه.

سومر سلطان 

 

اقرأ أيضاً