أسفل قريتنا وعلى بعد ساعة مشياً توجد قرية صغيرة يغلب على بيوتها الصفيح ويعيش فيها “الأخدام” بحسب الوصف الشائع عند أغلب اليمنيين. أُطلقَ عليهم هذا الاسم لأنهم كانوا يخدمون الناس خصوصاً في مناسبات الأعراس والعزائم وأيام الأعياد. ليسوا أخداماً أو خُداماً بالفطرة لكن الظروف أجبرتهم على العمل في مهن لا يمتهنها غيرهم.
في طفولتي كان الأهل يغرسون في ذهني أن “الخادم” كائن ناقص ولا يمكنه أن يكون نداً أو صديقاً ومن العار مصاهرتهم. كان أبي بالكاد يفك الخط، لم يكن من أنصار الحقوق المدنية، وكغيره كان يتعامل مع “الأخدام” كحقيقة أزلية ولا يخطط لدمجهم في المجتمع، لكنه أقدمَ على فعل استثنائي نعرف اليوم أنه سلوك مدنيّ أو مديني. هو نفسه لم يكن يعرف أن ما أقدم عليه سلوك مدنيّ يوم تزوج بخادمة وأنجب منها بنتاً سوداء.
عرف الجميع أن أبي تزوج بخادمة لكنهم تواطؤوا على أن يبقى الأمر سراً خصوصاً علينا نحن الأطفال. بعد أن كبرنا حدثتنا أمي عن زواج أبي وما زلتُ أذكر شماتة الأهل. لم يستمر زواج أبي طويلاً، لكن جدتي ظلت تردد: “يالله بحسن الخاتمة مُقبل تزوج خادمة”. توفت أختي من أبي وهي طفلة فكانت فرحة الأهل بذلك الخبر كبيرة، تدخل القدر لصالح ثقافتهم وكأنه يدرك حجم المعاناة التي ستعيشها لو أنها ظلت على قيد حياة التهميش والعنصرية. وتخلصت بدوري من ذلك القدر وهذه العنصرية بالكتاب.
اختفت تلك القرية الصغيرة من منطقتي، لا ندري إلى أين رحل سكانها، الأغلب أنهم انتقلوا إلى منطقة أخرى أو إلى ضواحي المدن. انتقال كثير من المهمشين للعيش في ضواحي المدن له دلالة عميقة تشير إلى رغبتهم في التمدن لكن حالتهم المادية لا تسمح لهم بالعيش إلا في ضواحي المدن وفي بيوت من صفيح وخيام. حتى رغبتهم في العمل تُقابل برفض مبطن من خلال توظيفهم كعمال نظافة، واستبعادهم من التوظيف في الكليات العسكرية مثلاً.
ما زال وصف “خادم” وجمعها “أخدام” شائع في اليمن على الرغم من محاولة استبدال الكلمة بـ “مُهمّش”. الصفة “مهمش” أقل عنصرية لكنها أيضاً تحمل حُكماً بالحتمية وتأبيد وضعهم كمهمشين. هذا يعني أن الحل لا يكمن في استبدال كلمة بأخرى بقدر ما يكمن في استبدال ثقافة بأخرى وسلوك بآخر. يأتي الحل من الاستثناءات التي تمكنت من التعامل مع هذه الفئة بشكل طبيعي من خلال الزواج والتعامل اليومي، والبداية مع التوقف عن مناداتهم “أخدام” سواء بشكل مباشر عند توجيه الخطاب لهم أو عند مخاطبة الأبيض لمثيله “يا خادم” بغرض التحقير.
يمكن لثقافة الاستثناءات هذه أن تنتصر على الثقافة السائدة. الروائي علي المقري حمل هم المهمشين في روايته الأولى (طعم أسود رائحة سوداء)، قدم لنا حياتهم وأتى الحل بأسلوب غير مباشر من خلال التعامل معهم كبشر مثل زواج الطبيب الحكيمي بخادمة، وقبلها عبر تعاطف القارئ مع شخصيات الحكاية.
تتخذ العنصرية لنفسها أشكالاً كثيرة منها نقدية أحياناً كاعتراض بعض “النقاد” على شخصية الخادم رباش الذي ظهر في شخصية المثقف اليساري وهو يدافع عن نفسه أمام القاضي. من وجهة نظر “النقاد” الواقعية عليه أن يظهر “خادماً” جاهلاً، وكأنه لا وجود لهذه الاستثناءات في الواقع فضلاً عن أن شخصية رباش في واقع الرواية السردي نموذج يقول بلغة غير مباشرة إن المهمشين ليسوا بالصورة التي في أذهانكم. موقف “النقاد” هذا لا يختلف كثيراً عن موقف آخرين يعللون صعوبة إدماج المهمشين بالمجتمع بسبب أسلوب حياة المهمشين الرافض للاندماج.
العنصرية تجاه المهمشين ليست بسبب لونهم ولكن بسبب مهنهم، الشاهد على ذلك أن “المزينين” أو الحلاقين والجزارين يُعاملون بنظرة دونية أيضاً. هذا يعني أن رفع مستوى المهمشين مهنياً، بقبولهم في جميع الوظائف، واجتماعياً ومادياً، برفع مستوى معيشتهم وتعليمهم، من شأنه المساهمة في إدماجهم، فاستسلام المهمشين ناتج عن يأس لا عن رغبة في استمرار وضعهم كما هو عليه، مشكلتهم ليست في صعوبة الاندماج ولكن في تمييزهم ورفض التعامل معهم من منطلق إنساني.
النظرة الدونية للمهمشين لها أسباب كثيرة دينية واجتماعية وقانونية. يرفض “القبيلي” الزواج من مهمشة لكنه لا يتورع عن اغتصابها أو ممارسة الجنس معها! ولا يمكن لأوباما يمني أن يظهر إلا بتغيير ثقافة الإقصاء بسبب اللون أو المهنة.
بقلم: رياض نسيم حمادي