خاص|| أثر برس المقاومة -من منظور الغرب، وربما من منظورها هي نفسها- هي تعبير عن رفض ليس لمشروع احتلالي استيطاني فحسب، وإنما رفض لخرائط وكيانات ورهانات الغرب أيضاً، ورفض لـ “مركزيته” و”هيمنته” على العالم أيضاً وأيضاً. والمقاومة هي -إلى ذلك، وهذا مجرد تقدير أولي- تعبير وتكثيف عن الحراك الطامح لـ “تغيير” النظام العالمي و”تفكيك” هيمنة الغرب عليه، كما سبقت الإشارة.
لكن، ويبدو أننا نستدرك على ما ورد أعلاه، لا توجد “دالة ارتباط” كبيرة أو مباشرة بين حدث غزة وبين الحراك الطامح لـ “تغيير” النظام العالمي، بل لعل “الدالة” إن وُجِدَت، هي “دالة سلبية” وليست “إيجابية”، إن أمكن التعبير، إذ إن حدث غزة لم يخلق استقطاباً كبيراً بين القوى الكبرى، ذلك أن الصين وروسيا مثلاً انتقدتا “إسرائيل”، لكنهما لم تقفا إلى جانب الفلسطينيين والعرب في حدث غزة، ولم تعدا الحدث “خط صدع” أو “فرصة سانحة” في المواقف والسياسات الدولية تستدعي اصطفافاً واصطفافاً مقابلاً.
لكن العالم يتغير بالفعل، قد لا تسير وفق خطط أو تقديرات أو نبوءات مسبقة، لكن تحدث أمور تنطوي على تغيير، على الأقل مقارنة بما كان في السابق، ومنها: موقف جنوب إفريقيا وتقدمهما بشكوى إلى محكمة العدل الدولية حول جرائم الإبادة التي تمارسها “إسرائيل” في غزة. وموقف إيرلندا المؤيد لجنوب إفريقيا. والاحتجاجات التي حدثت في مناطق مختلفة حول العالم، بما في ذلك أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهي الدول الأكثر تأييداً لـ “إسرائيل” في حربها على غزة.
بالطبع، تثار أسئلة كثيرة حول دوافع هجوم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وفي أي أفق هو، وما الهدف أو العائد المتوقع عند التخطيط له وعند تنفيذه…إلخ وهذه أسئلة تراود أطرافاً كثيرة حول العالم، وفي القلب من ذلك الدول العربية وجانب من الفلسطينيين أنفسهم.
ليس في هذا الكلام ما يبرر التخلف عن دعم الفلسطينيين في غزة والمطالبة بوقف الحرب وعودة النازحين والإمداد بالمساعدات المنقذة للحياة وتهيئة الظروف لحل أو تسوية سياسية تضمن حقوق الناس في غزة وفلسطين.
كما أن الفلسطينيين والعرب لا يقولون الكثير مما يمكن للعالم أن يتلقاه، بل إنهم أخفقوا -حتى الآن- في ملاقاة التعاطف العالمي معهم ضد العنف والقتل والتدمير المهول الذي تمارسه “إسرائيل” في غزة. وربما أخطؤوا في فهم ذلك التعاطف، الذي يتجه -في جانب كبير منه- ضد إفراط “إسرائيل” في العنف والقتل والتدمير، ومع تأكيد حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، كونهم شعباً تحت الاحتلال، ولكن الأمور لا تذهب إلى “جذر الصراع”، والكثير من التعاطف مع شعب تحت الاحتلال لا يعني -من هذا المنظور- تأييد أفعال تهدد أمن ووجود “إسرائيل” نفسها.
هذا لا يقلل من أهمية المواقف المتضامنة مع فلسطين من قبل دول غير عربية مثل جنوب إفريقيا وعدد من دول أمريكا اللاتينية، وبالطبع روسيا والصين، كما ظهر بعض التمايز في مواقف بعض الدول الأوربية مثل إيرلندا وإسبانيا. وأما الدول والمجتمعات العربية والإسلامية فقد بدت -وفي هذا شيء من التعميم القاسي نسبياً- أقل تأثراً بما يحدث، وأقل استجابة حيال حدث من المفترض أن يقع موقعاً متقدماً في أولوياتها وتقديرات الأمن الوطني والقومي لديها.
وهكذا، فإن موقف الغرب من المقاومة في فلسطين أو أي مكان في العالم، يعبر -في جانب رئيس منه- عن مدارك تهديد طارئة وغير مسبوقة، لموقعه ومكانته في النظام العالمي، كما سبقت الإشارة. صحيح أنه ثمة مقاربة خاصة لكل ما يتعلق بـ “إسرائيل”، ولها أولوية نسبية في التقديرات الأمنية والاستراتيجية، لكن الغرب ينظر لحدث غزة بوصفه جزءاً من كل، أي جزء من مصادر التهديد -الفرصة ككل، ليس لـ”إسرائيل” فحسب، وإنما للغرب نفسه أيضاً، وبوصف الحدث في غزة وفلسطين فعلاً واعياً وله تأثيرات كونية/عالمية الطابع، والغرب هو في طليعة المتأثرين بها.
وهكذا، وجد الغرب نفسه بحاجة إلى دعم وتأييد ما تفعله “إسرائيل” في غزة وإلى حد ما الضفة الغربية. بل إن الغرب تجاوز ذلك الدعم والتأييد إلى الحضور السياسي والعسكري المباشر، والدعم المالي وإمدادات السلاح وغيرها. إذ يضغط الأمريكان والأوربيون على “إسرائيل” فذلك ليس من أجل تغيير خططها وأولوياتها، بل من أجل تدبير أفضل للحرب نفسها، لا يغير من ذلك بعض التحفظات الخطابية، السياسية والإعلامية، على حجم التدمير وعدد الضحايا في قطاع غزة، أو تقديم المساعدات الغذائية والطبية.
ويبدو أن أقصى ما يحاوله الغرب حيال “إسرائيل” هو: “أن نُذكِّر إسرائيل بقواعد القانون الدولي الإنساني، حتى وهي تمارس حقها في الدفاع عن نفسها”، كما قالت ممثلة ألمانيا أمام محكمة العدال الدولية. (تصريحات، 9 نيسان/أبريل 2024)
ينطلق الطرفان (إسرائيل والغرب) من المرجعية الذهنية والخبرة التاريخية نفسها. أن كل فعل تجاه الفلسطينيين والعرب والمسلمين وغيرهم من غير الأوربيين أو غير الغربيين “له معقوليته” بنظر الطرفين المذكورين، وبالتالي فهو “صحيح”، بل هو “واجب”، طالما أن لهم فيه مصلحة، وطالما أن موضوعه هو شعب من أطراف وهوامش العالم وفي منطقة لم تتمكن حتى الآن من أن تقول كلمتها بشأن وجودها ومستقبلها.
تريد “إسرائيل” أن تحتكر القدرة على استخدام العنف المادي والرمزي، والإبادة المعنى المعروف والموصوف للكلمة، أصالة عن نفسها ونيابة عن الغرب. وهنا تبدو “إسرائيل” أكثر من “تمثيل” للغرب، وأكثر من “مركز” أو “قاعدة متقدمة” له في أحد “هوامش” و”أطراف” النظام العالمي، إن أمكن التعبير، بل إن “إسرائيل” هي “مركز” وعلى الغرب أن يتدبر موقفه مما يقوله ويفعله حياله. تبدو “إسرائيل” هي “مركز” القوة والمعنى في سياسات إدارة الحرب في غزة، والغرب هو “الهامش” أو “التابع”.
كل عنف تمارسه “إسرائيل” هو عنف شرعي بنظرها ونظر الغرب، وحربها هي “حرب عادلة” و”حرب مقدسة”، وهي بمنزلة “التأسيس الثاني” لـ”إسرائيل” بتعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، طالما أن الخصوم في الحرب هم شعوب متأخرة ومناهضة للغرب ولا تعترف بقوامته وشرعيته وحضارته. ومن هذا المنظور، فإن كل ردة فعل ضد “إسرائيل” والغرب هي إرهاب. إرهاب غير منفرد بل متمفصل مع أمور أخرى كلها تستوجب -من منظور “إسرائيل” والغرب- العقاب الحاد وصولاً إلى التدمير والإبادة.
قد يتسامح الغرب مع نقد مركزيته وهيمنته على مستوى التفكير والخطاب، ويتيح إعادة التفكير بالعالم، ونقد الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، ونقد المركز والأطراف، وإعادة التفكير بماركس وروزا لوكسمبورغ وغرامشي وغيرهم، واستعادتهم، والاستعانة بهم، لفهم ما يحدث في العالم اليوم، لكنه لن يتسامح مع تحول ذلك النقد وتلك المراجعات والاستعادات، إلى أجندة سياسية وحشد مؤيدين يريدون تغيير طبيعة النظام العالمي.
لم يتسامح الغرب مع مجرد وجود تولستوي في مناهج الدراسة الجامعية لديه، بعد الحرب في أوكرانيا، وَعَدَّ تولستوي جزءاً من الرأسمال الرمزي والثقافي والقيمي لروسيا، جزءاً من القوة الرمزية لروسيا في أوربا، وبالتالي قرر “شطب” الروائي العالمي الكبير من المناهج الجامعية لأسباب سياسية، حتى إنه ألغى العروض الأوبرالية والحفلات الموسيقية الروسية. وبالقدر نفسه، فإن ألمانيا لم تتمكن من قبول مجرد تضامن فيلسوفة يهودية أمريكية هي نانسي فريزر، مع مأساة غزة، وتراجعت عن دعوتها أستاذاً زائراً في إحدى الجامعات الألمانية.
أخفق الغرب في ادعاءاته الأخلاقية والقيمية. وتعرضت صورته ورأسماله الرمزي وحضوره القيمي والثقافي في العالم لاهتزاز كبير. ليس حدث فلسطين هو ما فعل ذلك كله تماماً، ولم تبدأ الأمور عند حدث غزة. لكن الحدث يمثل “نقطة تحول” و”لحظة فارقة” بهذا الخصوص. ربما أدت التطورات وردود الأفعال إلى “كشف غير مسبوق” عن الرهانات العميقة والتحيزات وخطوط الصدع لدى الأطراف، بما في ذلك الغرب نفسه.
الدكتور عقيل سعيد محفوض