زياد غصن || أثر برس المتابع للنشاط الحكومي، وتحديداً لأداء بعض الوزارات، يخلص إلى أن مؤسسات القطاع العام هي الرائدة أو أن مساهمتها هي الأكبر في هذا القطاع أو ذاك، ولذلك تبدي تلك الوزارات اهتماماً بتطوير مؤسساتها وتحسينها، لكن عملياً هذا الانطباع غير صحيح وفقاً للمؤشرات الإحصائية الرسمية، الأمر الذي يعني أن بعض الوزارات بحاجة اليوم إلى إعادة هيكلة جذرية لتنتقل من دورها المحدود حالياً بمتابعة مؤسسات القطاع العام إلى الإشراف ومتابعة عمل القطاعين العام والخاص، وربما الميل أكثر للقطاع الخاص بحكم نسبة مساهمته الأكبر، وهذه ليست دعوة للخصخصة أو إهمال مؤسسات القطاع العام وإنما دعوة لقراءة الواقع ومتغيراته.
في تناوله لمساهمة القطاع الخاص في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يقدم تقرير الاستعراض الوطني الطوعي الصادر حديثاً بعض المؤشرات الخاصة بهذه المساهمة، والتي ربما لدى الكثيرين معرفة بها في إطارها العام، لكنها ليست معرفة موثقة بالمؤشرات والبيانات، فمثلاً جميعنا يعلم أن مساهمة القطاع الخاص هي الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، إنما القليل منهم يعرفون أن هذه المساهمة باتت نسبتها تصل وفق التقديرات الرسمية الحديثة إلى حوالي 72%، وأن القطاع الخاص هو الأكثر تشغيلاً للعمالة، لكن من يعلم أن هذه النسبة تصل إلى حوالي 76% من إجمالي المشتغلين؟
يذكر التقرير أيضاً أن مساهمة القطاع الخاص من الناتج الصناعي تصل إلى أكثر من 92%، وأنه يساهم بحوالي 85% من إجمالي المشتغلين بالقطاع الصناعي، وأنه يستحوذ على أكثر من 90% من إجمالي الركاب المنقولين، وعلى أكثر من 95% من البضائع المنقولة براً.
في القطاع الزراعي يبرز أكثر حضور القطاع الخاص، حيث تتجاوز مساهمته من الإنتاج الزراعي 95%، وهي النسبة نفسها في مساهمة هذا القطاع من تجارة الغذاء في البلاد.
وحتى في الصحة، وهو القطاع الذي تقدم فيه الحكومة منذ عدة عقود من الزمن وعبر شبكة ضخمة من المستشفيات والمراكز الصحية خدمات شبه مجانية، فإن أسرة المشافي التابعة للقطاع الخاص تشكل اليوم ما نسبته حوالي 40% من إجمالي الأسرة، في حين ترتفع مساهمة هذا القطاع في الإنتاج الدوائي إلى أكثر من 80%.
لكن في التعليم لا تزال مساهمة القطاع الخاص محدودة لأسباب معروفة، إذ إن نسبة الطلاب المسجلين في المدارس الخاصة لم تتجاوز 10% من إجمالي عدد الطلاب، كذلك الأمر بالنسبة لطلاب التعليم الجامعي والتي لم تتجاوز 8%، وحدها رياض الأطفال شكلت طفرة في مساهمة الخاص من خلال عائديه 78% منها للقطاع الخاص.
مثل هذه المؤشرات كيف يفترض أن تنعكس على الأداء الحكومي؟
هناك ثلاثة ملفات أساسية يجب أن تعمل عليها الحكومة الجديدة في مقاربتها لواقع مساهمة القطاع الخاص، وذلك بغية تطويرها واستثمارها بما ينعكس ايجاباً على الاقتصاد الوطني ككل، لاسيما في قطاعاته الإنتاجية:
-الملف الأول ويتعلق بتوسيع دائرة مشاركة الخاص في صناعة القرار الاقتصادي المؤثر على نشاطه واستثماراته، ورغم الادعاء الحكومي بمشاركة ممثلين عن غرف التجارة والصناعة والسياحة وغيرها، إلا أن النتائج على الأرض تظهر أن تلك المشاركة غير فاعلة أو أنها أدت في بعض الحالات إلى نتائج عكسية.
-الملف الثاني ويتمثل في أداء بعض الوزارات القائم منذ سنوات طويلة على الاهتمام بشؤون ما يتبع لها من مؤسسات وشركات عامة متناسية أن الجزء الأكبر من نشاطها يفترض أن يذهب للمؤسسات الخاصة الأكثر مساهمة، وهذا يظهر بوضوح في وزارات إنتاجية وخدمية أساسية كالصناعة، السياحة.. وغيرها.
-الملف الثالث هو خاص بتوسيع مساهمة القطاع الخاص في القطاعات التي لا تزال تسجل نسبة مساهمة متدنية، وفق ضوابط ومعايير تضمن تحقيق الدولة لأهدافها ومهامها ومسؤولياتها في هذا القطاع أو ذاك، ومنذ أشهر هناك نقاش بحثي وأكاديمي واسع حول ماهية ومستقبل دور الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما سيتم اعتماده في هذا المجال سيكون للقطاع الخاص دور محوري في السعي لتحقيقه.
مرة أخرى إن تطوير مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والتنموي ليس معناه انسحاب القطاع العام، وإنما الدفع نحو إعادة تموضع له ليتجه اهتمامه نحو المشروعات الاستراتيجية في مجال الإنتاج وبناء شبكة حماية اجتماعية متقدمة ومتطورة، فضلاً عن العمل على تحسين بيئة الأعمال والقيام بأعمال التخطيط والتنظيم والرقابة.. فهل تنجح الحكومة الجديدة في القيام بخطوات فعلية على صعيد إصلاح القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص على زيادة مساهمته التنموية والاقتصادية والاجتماعية؟