خاص|| أثر برس طرأت على الغارات الجوية التي ينفذها الكيان الإسرائيلي على سوريا تغيرات عدة خلال سنوات الحرب، سواء من جهة طبيعة الأهداف أم من جهة كثافتها، وبرزت هذه التغيرات بروزاً أوضح بعد عملية “طوفان الأقصى” التي تم تنفيذها داخل العمق الصهيوني، إذ بات كيان الاحتلال يرى نفسه محاطاً بمحور عسكري يشكل خطراً عليه يمتد من قطاع غزة مروراً بلبنان، وصولاً إلى سوريا ومنها إلى إيران.
كان لسوريا نصيب من الغارات “الإسرائيلية” سواء خلال سنوات الحرب أم ما قبلها، وذلك نتيجة التماس الجغرافي بينها وبين الأراضي المحتلة، إلى جانب أنها طريق إيصال الدعم لحركات المقاومة، لكن طبيعة الأهداف التي طالتها تلك الغارات قبل “طوفان الأقصى” اختلفت عن الأهداف التي أصابتها الغارات الإسرائيلية بعد “طوفان الأقصى”.
التغيّر الذي طرأ على نوعية الأهداف وطبيعتها، سببه هو أن الكيان الإسرائيلي اتبع استراتيجية ضرب البنى التحتية السورية بالدرجة الأولى، كاستهداف مطاري دمشق وحلب مرات عدة، إذ تشير التحليلات العسكرية إلى أن استهداف المطارات الدولية السورية كان ضمن سلسلة إجراءات استباقية واحترازية، نظراً إلى أن الكيان الإسرائيلي لم يكن واعياً في الأيام الأول لانطلاق عملية “طوفان الأقصى” الخطر الكامن حوله، إذ اعتقد أنه قد يواجه حرباً إقليمية شاملة قد تكون سوريا جزءاً منها، وهو الأمر الذي دفعه إلى استدعاء البوارج الحربية الأمريكية، واستهداف البنى التحتية السورية بقصف ممنهج.
الغارات الإسرائيلية قبل عام 2011
تزايدت الغارات الجوية على سوريا بعد اندلاع الحرب فيها زيادة لافتى، وبرر كيان الاحتلال هذه الغارات على أنها تستهدف الاستشاريين العسكريين الإيرانيين الذي وصلوا إلى سوريا بعد الحرب بالتنسيق مع دمشق، لكن بالنظر إلى سنوات ما قبل الحرب تبيّن أن هذه السياسة كان ينتهجها الكيان الإسرائيلي إزاء سوريا منذ ذلك الحين.
وأبرز هذه الغارات كانت في أكتوبر من العام 2003، واستهدف طيران الاحتلال حينها موقع تدريب فلسطيني في منطقة عين الصاحب قرب دمشق، وفي سيبتمبر من العام 2007 شن الكيان الإسرائيلي هجمات جوية على موقع عسكري بدير الزور، قالت إنه مخصص لإنشاء مفاعل نووي سوري، وفي كلا الحالتين كانت الأسباب المباشرة لهذه الهجمات الخوف من تطوير المنظمة العسكرية السوري أو دعم المقاومة الفلسطينية.
الغارات الإسرائيلية بعد عام 2013
أشارت التقديرات العسكرية إلى أن سوريا شهدت منذ عام 2013 هجمات جوية إسرائيلية متكررة بذريعة استهداف الوجود الإيراني في سوريا، إذ يزعم الكيان الإسرائيلي أنه بهذه الغارات يحاول حماية “أمنه القومي” من الوجود الإيراني عند الحدود بين الأراضي المحتلة وسوريا، وهو ما يفسر سيطرة “التنظيمات الإرهابية المسلحة” في سنوات الحرب الأولى على الشريط الحدودي جنوبي سوريا، بدعم عسكري ولوجستي مباشر من الكيان الإسرائيلي.
ومع تبدل خريطة السيطرة في سنوات الحرب في معظم المناطق السورية سيما الجنوبية تفاوتت كثافة الغارات الجوية الإسرائيلة، وعليه يمكن تبويب هذه الغارات على مراحل عدة:
الغارات الإسرائيلية بين عامي 2013 – 2016:
أفاد “معهد الشرق الأوسط” ومقره واشنطن أنه بإجراء تحقيق دقيق وجمع بيانات باستخدام برنامج Arc Gis الذي يوفر وصولاً إلى صور الأقمار الصناعية للمواقع التي يستهدفها الكيان في سوريا، تبيّن أنه بين عامي 2013 – 2016 شنت “إسرائيل” 14 ضربة “فائقة الدقة”، بحسب زعمها موزعة ما بين دمشق، وريف دمشق، ومحافظة اللاذقية، مع التركيز على منطقة السيدة زينب وغيرها من مناطق ريف دمشق التي يوجد فيها مستشارون إيرانيون، بحسب “التقديرات الإسرائيلية”.
وبالتحليل الدقيق للأرقام المنشورة لهذه الحقبة الزمنية، يتبيّن أنه خلال السنوات الثلاث هذه كانت المجموعات المسلحة مسيطرة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، وتحديداً الشريط الحدودي مع الأراضي المحتلة جنوبي سوريا، إذ لم يكن الكيان الإسرائيلي في هذه الفترة مضطراً لتوجيه أي ضربات على المنطقة الجنوبية، على اعتبار أنه كان محاطاً بحزام أمني شكلته المجموعات المسلحة بسيطرتها على مناطق جنوبي سوريا.
الغارات الإسرائيلية بين عامي 2017 – 2023:
![الغارات الإسرائيلية على سوريا خلال سنوات الحرب](https://www.athrpress.com/wp-content/uploads/2024/06/1-338-300x300.jpg)
الغارات الإسرائيلية على سوريا خلال سنوات الحرب
أقر الكيان الإسرائيلي بين عام 2016 ومنتصف عام 2023 أنه وسّع عملياته خوفاً من التأثير الإيراني، إذ نفّذ -بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية- استهدافات جوية على أكثر من 192 موقعاً، ضمن 12 محافظة، مشيراً إلى أن تقديراته أفادت بأن هذه المناطق هي مراكز وجود الاستشاريين الإيرانيين، ووفق تقرير لـ”معهد الشرق الأوسط”، فإن 61% من هذه العمليات تركزت على المنطقة الجنوبية في سوريا، كما نفذت القوات الأمريكية 13 غارة على دير الزور.
وأثار ارتفاع وتيرة الغارات على سوريا عموماً والمنطقة الجنوبية خصوصاً بعد عام 2016 إشارات استفهام عدة، وبالمسح الجغرافي لمجرى عمليات الجيش السوري في المنطقة الجنوبية، اتضح أن الجيش بات يسيطر على مساحات واسعة جنوبي البلاد، خصوصاً بعد تدخل القوات الروسية عام 2016 بطلب من الحكومة السورية وتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة.
واعتبر الكيان الإسرائيلي أن توسّع سيطرة الجيش السوري على المنطقة الجنوبية تعني أنه بدأ يخسر “حزامه الأمني” الذي حاول تشكيله منذ بداية الحرب السورية، ما دفعه إلى تكثيف غاراته الجوية والتركيز على نقاط القوة للجيش السوري جنوباً، سيما قواعد الدفاع الجوي السورية.
ووفق “معهد الشرق الأوسط للدراسات” ومقره واشنطن، فإن الغارات الإسرائيلية على سوريا تزايدت خلال هذه المرحلة بنسبة نحو 44%.
![الغارات الإسرائيلية التي استهدفت المطارات العسكرية والمدنية في سوريا خلال سنوات الحرب:](https://www.athrpress.com/wp-content/uploads/2024/06/المطارات-300x164.png)
الغارات الإسرائيلية التي استهدفت المطارات العسكرية والمدنية في سوريا خلال سنوات الحرب:
الكيان الإسرائيلي يقصف مراكز الأبحاث كإجراء استباقي:
على الرغم من التعديلات التي أجراها الكيان الإسرائيلي على اختيار أهدافه في غاراته على سوريا، فإنه بقي محتفظاً بنوعية الأهداف التي كان يعتدي عليها سابقاً، ومن ضمن النقاط التي بقيت مُدرجة ضمن قائمة أهداف “الغارات الإسرائيلية” كانت مراكز الأبحاث السورية، إذ كثّف كيان الاحتلال غاراته على هذه المراكز، لكن هذه الاستهدافات لم تكن وليدة الحرب في سوريا، ففي عام 2007 شن الكيان الإسرائيلي غارات على مقر عسكري سوري قيد الإنشاء في دير الزور شرقي سوريا، وقال إنه قصف مفاعلاً نووياً سورياً يتم العمل لإنجازه، الأمر الذي يوضّح أن من ضمن الأهداف الاستراتيجية التي يسعى كيان الاحتلال إلى تحقيقها من غاراته على سوريا هي منع تطوير المنظمة الصاروخية أو الدفاعية.
ومع بداية الحرب على سوريا بات الكيان الإسرائيلي يعتبر أن استهداف مراكز البحث العلمي هدفاً جيوسياسياً، لكبح أي عملية تطوير لأنظمة الصواريخ بعيدة المدى والتي تصل إلى عمق الكيان، وخوفاً من أن تصل هذه الأسلحة لحزب الله، والمقاومة الفلسطينية، وتشير دراسة معهد “الشرق الأوسط” إلى أن الكيان الإسرائيلي قصف مراكز البحوث العلمية السورية في جمرايا ومصياف بوصف ذلك جزءاً من الإجراءات الاستباقية، ومنعاً لتطوير منظومتها الصاروخية، وهذه الغارات جزء من استراتيجيتها بعيدة الأمد، وتقر الدراسة أن 60% من الغارات على المنطقة الساحلية كانت مخصصة لمواقع الدفاع الجوي عام 2022.
ويتضح مما سبق أن أحد الأهداف الإسرائيلية من الغارات الجوية على سوريا هو منع تصاعد القوة الصاروخية للجيش السوري، والتي يتم تطويرها في مراكز البحث العلمي، كما يهدف إلى منع عبور هذه المنظومات الصاروخية إلى حزب الله في لبنان ومنها إلى المقاومة الفلسطينية في غزة.
وبهذا يكون الكيان الإسرائيلي قد عمل في غاراته الجوية على سوريا، على خطين متوازيين، ففي الخط الأول استهدف الشخصيات الإيرانية والمستشارين في سوريا وذلك استهدافاً علنياً وفاضحاً، وكان آخرها استهداف السفارة الإيرانية بشكل مباشر، وفي الوقت نفسه ترى “إسرائيل” أن سوريا تعمل لتطوير منظومتها الصاروخية وتطوير قدراتها العسكرية، لذلك عملت لمنعها من تطوير قدراتها الصاروخية والدفاعية ووصول مثل هذه المنظومات للمقاومة في حزب الله وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
د. أحمد الكناني