خاص|| أثر برس خطوط الحرب السورية وتداخلاتها كلها تعمل من دون انقطاع أو توقف تقريباً، وبقدر متفاوت من الجدية والعائدية، حتى بين الأطراف الأكثر عداوة في الأزمة السورية، ما عدا الخط الذي يجب أن يعمل بالفعل، وهو خط دمشق-القامشلي. الخط الوحيد الذي يُعوَّل عليه في “حل” أو “تسوية” واحدة من أكثر المشكلات تعقيداً في المشهد السوري وتداخلاته الإقليمية والدولية.
“قسد” التي اضطرت، بتأثير التهديد التركي والتخلي الأمريكي، والذاكرة السلبية من خبرة الاستحقاقات السابقة، كما ذكر أحد الباحثين الكرد للكاتب، لتأجيل انتخابات بلدية كانت قد أعلنت من طرف واحد موعد إجرائها، إدارة أُعلنت هي نفسها من طرف واحد أيضاً. تأجلت الانتخابات البلدية التي كانت مقررة في (11 حزيران/يونيو 2024) إلى شهر (آب/اغسطس 2024). التأجيل بدعوى إتاحة الوقت لـ”الأحزاب” من أجل الاستعداد الجيد لخوضها، لكن الأسباب الفعلية معروفة، وهي كما سبقت الإشارة التهديد التركي، والمخاوف الداخلية من التداعيات القاسية المحتملة، والتخلي الأمريكي. والنقطة الأخيرة بالغة الحساسية بهذا الخصوص، إذ ثمة تقديرات تملكها “الإدارة الذاتية” و”قسد” بأن الإدارة الأمريكية تنصلت من أي تداعيات محتملة للانتخابات بما في ذلك هجوم عسكري تركي، كبير ومدمر، هددت به تركيا صراحة، مراراً وتكراراً. وثمة بالقطع أسباب أخرى.
كانت “قسد” قد أعلنت تشكيل قانون البلديات في مناطق سيطرتها (8 نيسان/أبريل 2024)، وقبل ذلك أُجري اجتماعي جديد بتاريخ (12 كانون الأول/ ديسمبر 2023). وعقدت مؤتمراً للعشائر بتاريخ (25 أيار/مايو 2024) الذي خرج بخلاصات وتعميمات تتوافق بالتمام مع خط “الإدارة الذاتية”. وهذا “تبعيد” للمسافة مع دمشق، ورفع الجدران معها، وبالتالي تقليل من أي احتمالية جدية أو فرص واقعية للتواصل بين القامشلي ودمشق.
وفي الوقت الذي تعتدي فيه تركيا اعتداءً مستمراً على مناطق شمال شرقي سوريا، فإن قياديي “قسد” و”الإدارة الذاتية” يقولون: إن الهجمات ليست من جهة تركيا فقط، بل إن “ميليشيات إيرانية” و”قوات من العشائر” تفعل الشيء نفسه من جهة “خط الفرات”. هذا الكلام هو من الأمور الدالة بالفعل، ليس على مستوى الخطاب فحسب، وإنما على مستوى الوعي أيضاً. لكن هل ثمة إجماع على هذا الموقف حيال دمشق وحلفائها؟
ما يحدث ليس خطأ في التعبير أو في تقدير الأمور، بل هو “فعل قصدي”، يراد منه كسب تأييد أمريكي لـ”قسد”، إنما في مواجهة دمشق وحلفائها، علَّ ذلك يفيد حيال تركيا أيضاً. مواقف وتصريحات كهذه تحيل إلى رغبة “قسد” و”الإدارة الذاتية” في تأكيد أهميتها كـ”حليف” لأمريكا في وجه خصومها في سوريا والإقليم، وليس في مواجهة تركيا، ذلك أن أمريكا نفسها هي التي تُمكِّن تركيا من الاعتداء على “الإدارة الذاتية” وتهديدها وجودياً. والواقع أن الإدارة الذاتية إذ ترسل “إشارات إيجابية” إلى دمشق، فإنها تفعل ذلك بحذر، وربما بنوع من الخوف من موقف أمريكي يرفض ذلك.
مرة أخرى، لماذا تكون استجابات “الإدارة الذاتية” و”قسد” في هذا النحو، هل هو “سوء تقدير” للموقف، أم “إحباط” من دمشق التي لا تنظر بجدية لأي مفاوضات أو مفاوضين يمثلون “إدارة” تم إعلانها من جانب واحد، و”سلطة أمر واقع” مدعومة أمريكياً؟ هل تشعر “الإدارة الذاتية” و”قسد”، على الرغم من كل شيء، أن تركيا أقرب لـ”التفاهم” معها من دمشق نفسها، وأن “التسوية” بين الطرفين، أي أنقرة و”قسد”، أقرب من “التسوية” بين الأخيرة ودمشق؟ قد لا توجد مؤشرات مباشرة على ذلك، إلا أن مسارات الأمور توحي بشيء من ذلك. وهذه في أي حال مسألة تتطلب مزيداً من التقصي والتدقيق.
ثمة قطع حاد هنا بين رؤيتين من الصعب التوفيق بينهما: دمشق التي ترى أن “الإدارة الذاتية” هي مشروع أمريكي أو مدعوم أمريكياً يتجه نحو “الانفصال الناعم” وحتى العلني إن أمكن ذلك. ويشكل ذريعة للتدخلات التركية والأمريكية والغربية في سوريا. و”الإدارة الذاتية” التي ترى أن دمشق غير مستعدة لأي “حل” أو “تسوية” قد تحدث تغييراً ليس في مركزية السلطة والإدارة والقوانين والتشريعات فحسب، وإنما في شكل وطبيعة المجتمع والدولة، كما تراهما دمشق.
ثمة تباطؤ واضح في وعي أهمية وضرورة الحوار والتقارب والحل بين الطرفين. والمرحلة المقبلة بالغة الحساسية والخطورة. وقد يتم تأجيل ثان أو ثالث لـ”الانتخابات البلدية”، ومن المتوقع أن تزداد الأمور سخونة: مزيد من الاعتداءات التركية. ومزيد من المداورة الأمريكية بين “قسد” وأنقرة، بل الضغوط الأمريكية على “الإدارة الذاتية” و”قسد”. ومزيد من الجدران بين دمشق والقامشلي. أمريكا تسمح لتركيا بالاعتداء على مناطق “الإدارة”، وتمنع “الإدارة” من التواصل الجدي مع دمشق، وتحول دون إطلاق طلقة واحدة من جهة دمشق أو القوى الحليفة أو الرديفة المرابطة في “خط الفرات” ضد “قسد”، ألا يعني ذلك شيئاً؟
كلما ابتعدت المسافة بين دمشق و”قسد”، زادت مناطق “الإدارة الذاتية” ومنطقة الجزيرة والفرات نهباً من قبل واشنطن، وهدفاً للاعتداء وربما القضم من قبل تركيا. النقطة الأولى (التباعد أو القطيعة بين دمشق والقامشلي) هي الأكثر خطورة، لأنها تمثل الأساس الموضوعي للنقطتين الأخريين: الثانية (السيطرة الأمريكية ونهب الموارد) والثالثة (الاعتداءات والأطماع التركية).
وحتى يحين موعد “الانتخابات البلدية” في مناطق “الإدارة الذاتية” (آب/أغسطس 2024)، قد تحدث أمور كثيرة: مزيد من محاولات “التقريب” بين دمشق وأنقرة، مثل المحاولة التي أعلنها رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (1حزيران/يونيو 2024). ومحاولات أمريكية لـ”التقريب” بين “قسد” و”أنقرة”، إن لم يكن التقريب فـ”التهدئة”. يحدث ذلك بالتوازي مع محاولات لـ”تعزيز الاتصال” بين “الإدارة الذاتية” في منطقة الجزيرة ومناطق “الإدارة المشتركة” بين “جبهة النصرة” وقوات الاحتلال التركي في شمال غربي سوريا.
إذ تعمل واشنطن لـ “استثناء” مناطق “الإدارة الذاتية” و”الإدارة المشتركة” من العقوبات والحصار المفروض استثناءً غير قانوني وغير شرعي على سوريا، فإنها تعزز لديهما “النزعة الكيانية”، وهي سلطات أمر واقع “تتشبه بالدولة”. وتجعل واشنطن “خطوط الفصل” بين “الإدارتين” المذكورتين ودمشق أقرب لـ”خطوط ثبات” و”حدوداً” كيانية وسياسية، وبالطبع “صواعق تفجير” للأزمة والصراع في أي وقت.
هل هذا كل شيء؟ ألا تثير المواقف الأمريكية الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في (5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024) هواجس أو مخاوف على وضع “الإدارة الذاتية”، وهو وضع غير معترف به من قبل دمشق وحلفائها، وغير شرعي من منظور القانون الدولي، وهو تحت التعديل الجذري وربما “المحو” و”الإزالة” أو “التفكيك” في حال تغيرت موازين القوى؟
لا أفق تشكل أو استقرار مديد أمام “كيانيات” معلنة من جانب واحد، ولا تملك عوامل تأسيس أو وجود كافية، بما هي “كيانيات”. وهذا بطبيعة الحال لا يعني “تجاهل” الوقائع المادية والاجتماعية الاقتصادية والقيمية على الأرض. ثمة فرصة لـ”تقييم” ما حدث، و”إعادة التفكير” فيه، و”التأسيس” عليه، إنما في أفق المجتمع والدولة، بالتغييرات والتعديلات كلها التي يفترض أن تصدر عن السوريين بإرادة وإدارة سورية. لا شك أن المهمة بالغة الصعوبة، لكنها ممكنة. أو دعونا نعدها ممكنة، ذلك أن الإرادة الحرة والنيات الطيبة توسع دائرة الإمكان وتزيد البدائل وتجعل البعيد قريباً!.
صحيح أن الحروب تنتج خرائط سيطرة، منها ما يستمر ويصبح دولاً أو أشباه دول، ومنها ما يكون مؤقتاً أو عابراً. والحروب نفسها تنتهي إلى سياسات وتسويات، الأمر الذي يعزز العودة عن تلك الخرائط أو التخفيف من طبيعة الكيانيات وربما زوالها، إلا إذا كان التقسيم هو هدف ورهان السياسات الإقليمية والدولية في الأزمة السورية. وهذا باب بالغ الحساسية والخطورة، ليس على سوريا فحسب، وإنما على أصحاب تلك الأهداف والرهانات أنفسهم أيضاً.
لا شك أن ثمة عوامل مادية، اجتماعية-اقتصادية، بالتعبير الماركسي والسوسيولوجي، وسياسية وأمنية، لما يحدث في منطقة الجزيرة وخط الفرات، وبالطبع منطقة إدلب وشمال غربي سوريا، بما في ذلك مدارك ورهانات سلطات الأمر الواقع هناك، التي يندفع بعض فواعلها لتعزيز وجودها في أفق انفصال أو شبه انفصال، أو أن يكونوا جزءاً من ديناميات الأزمة والصراع التي تريد تغيير طبيعة المجتمع والدولة في سوريا، لكن التفكير الصحيح والوعي بالواقع والتاريخ وأحوال العالم اليوم، يمكن أن يخلق بدائل أكثر جدية، أولها التوافق على “حل” أو “تسوية” مع “الدولة المركزية”، في أفق مجتمع ودولة سوريين، قابلين للاستقرار والاستمرار.
إن المهمة العاجلة، والتي يفترض أن لا تكون أو أن لا تبقى غائبة، هي التفكير في فتح خط القامشلي-دمشق على حوار في أفق يبحث عن حل سوري بأيد سورية، وفي أفق المجتمع والدولة، إن أمكن ذلك أو ما أمكن ذلك، فهذا أقرب إلى “النجاة” في خضم التفاعلات والتداخلات الكثيفة والمعقدة في المشهد السوري والإقليمي والدولي.
وما ذلك على الله بعزيز.
الدكتور عقيل سعيد محفوض