خاص|| أثر برس كل ما فعلته “إسرائيل” تجاه إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية لا يعادل جزءاً صغيراً من حدث غزة، خصوصاً هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، الذي مثّل مع المقاومة التي تلته، تهديداً وجودياً لـ”إسرائيل”، لم تواجه مثله منذ إعلان قيامها الكارثي والإجرامي على أرض فلسطين في العام 1948م.
لدى “إسرائيل” ما يشبه اليقين أن هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو من “هندسة” و”تدبير” الحرس الثوري الإيراني. وتتحرك “إسرائيل” والغرب وعدد من الدول العربية انطلاقاً من يقين تام تقريباً أن إيران سبب ما يحدث في غزة والمنطقة منذ ذلك الهجوم، ولن تقف عند ذلك.
أدى حدث غزة إلى صدمة غير مسبوقة في تاريخ “إسرائيل”، وسبب جرحاً نرجسياً ليس من السهل التكيف معه أو احتواء تداعياته، بله إبراؤه. وتشعر “إسرائيل” أن ثمة الكثير مما يجب أن تفعله لتحقيق “تعادل” في المواجهة. ومن ذلك الحاجة إلى “تغيير النمط”، ذلك أن المواجهة غير المباشرة أو عبر فواعل أخرى لم تعد تمثل الاستجابة المناسبة. وأن الحاجة إلى “تغيير النمط” تعني أن يكون الاستهداف مباشراً ومتكرراً وموجعاً، حتى داخل إيران نفسها.
تستهدف “إسرائيل” منذ بعض الوقت شخصيات قيادية من إيران وحزب الله وحركة حماس، معتمدة اختراقات استخباراتية ليست من صنعها هي وحدها، وبدعم أمريكي وغربي وحتى إقليمي غير محدود، وعلى شعورها أن إيران لا تفضل الدخول في مواجهة مباشرة معها ومع الغرب. معروف أنه ثمة تحالف استخباراتي غربي- إسرائيلي- عربي واسع النطاق وكبير الموارد والإمكانات يعمل ضد إيران ويحاول احتواءها، في الخارج والداخل.
ويفضل الإيرانيون الدخول في سياسات “مشاغلة” و”إجهاد” و”احتواء” عميقة لـ”إسرائيل” بدعم فواعل وقوى وشبكات مقاومة في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها، وأن وجود إيران في سوريا منذ العام 2011م هو -من هذا المنظور- شكل من أشكال المواجهة مع “إسرائيل” والغرب. هذا -من منظور إيران- أفضل من المواجهة المباشرة، التي تبدو غير ممكنة أو عالية الخطورة باعتبار ميزان الإمكانات والقوى والموارد والتحالفات في العالم اليوم.
تحولات وتقديرات
تنطلق قراءة الموقف بين إيران و”إسرائيل” من أنه ثمة:
-تحول في المواجهة بين الطرفين، مواجهة “غير مباشرة”، على قاعدة “الإخفاق المتوقع”، وسوف نأتي إلى توضيح ذلك لاحقاً، إلى “مواجهة مباشرة”، إنما “مُتحكَّمٌ بها”، مع حرص أكبر من قِبَل إيران على “العودة إلى النمط”.
-بالتوازي مع احتمالية متزايدة للانزلاق إلى مواجهة مباشرة أوسع نطاقاً. ذلك أن الإيرانيين لا يستطيعون تجاهل طبيعة وحجم وتواتر الاعتداءات الإسرائيلية على بلدهم ومصالحهم. وخصوصاً الاعتداءات التي تطال كبار القياديين الأمنيين والعسكريين والعلماء والمواقع الاستراتيجية.
ثمة ميل أو اندفاع إسرائيلي متزايد للخروج عن النمط. وتأكيد إيراني متزايد أيضاً على الرد، ولو أن الانزلاق إلى “مواجهة مباشرة” لا يزال بعيداً، بافتراض أن القراءة العقلانية للأمور، من قبل مختلف الأطراف، سوف تبقى سيدة الأحكام!
المواجهة “غير المباشرة”
يجد الإسرائيليون أن الاستمرار في المواجهة “غير المباشرة” لم يعد مناسباً، ذلك أن إيران تغير في تكتيكاتها وتعزز قدرة حلفائها على إيقاع الضرر بـ”إسرائيل”. ويذهب الإسرائيليون إلى أن “تغيير النمط” من مواجهة “غير مباشرة” إلى “احتواء متعدد الأنماط”، بما في ذلك تنفيذها استهدافات مباشرة لمواقع أو مصالح أو شخصيات قيادية إيرانية أو متحالفة مع إيران، هو الاستجابة المناسبة، نوع من “سياسات الحافة”، إنما مع أبواب مفتوحة لـ”الضبط” يتولاها حلفاؤها الأمريكان ووسطاء إقليميون ودوليون.
“الإخفاق المتوقع”
نتحدث عن سياسات “الإخفاق المتوقع”، التي تحكم سياسات “حافة الهاوية” بين إيران و”إسرائيل”. وسأسرد باختصار قصة هذا التشبيه الذي أرى أنه ينسحب إلى المواجهة متعددة الأنماط بين إيران و”إسرائيل”، كيف؟
كنت أتابع برنامجاً تلفزيونياً عن بناء الجسور. تحدث أحد المشاركين عن “الفواصم” التي تُصمّم بحيث تنكسر أو تنقطع عن تعرضها لجهد أو ثقل أو ضغط معين، مثال ذلك أغطية وسدادات علب المشروبات الغازية والفواصم أو الفواصل الكهربائية…إلخ، وهكذا فإن قاعدة “الإخفاق المتوقع” تعني “هندسة” الأمور على أن “تفشل” عند تعرضها لتأثير معين.
هذا ينسحب إلى جانب من المواجهة بين إيران و”إسرائيل”، وبالطبع إيران وأمريكا، التي لا تزال في خط “الضبط” و”الانضباط”، كما تتكرر الإشارة، ومحكومة بالحرص على أن لا تنزلق الأمور إلى مواجهة مباشرة مفتوحة. وأن حرص الأطراف على تراسل كثيف قبيل أي عمليات عسكرية مباشرة أو ردود أفعال أو ردود على اعتداءات، ويتعلق الأمر بإيران والولايات المتحدة في نحو خاص، هو نوع من “الاحتواء” لأي اندفاعات غير محسوبة أو خارج النمط.
الواقع أن في ذلك نوع من “مشهدية” معينة، المُخاطَب فيها ليس الآخر فقط، بل الأنا أو الداخل أيضاً، وربما أولاً. منطق “المشهدية” هو أن تكون ثمة هجمات وردود أفعال وضغوط وإكراهات وحتى اعتداءات، لكن الحرب ليست مطلوبة بذاتها، ولا كسر تام للنمط أو إيقاع أضرار كبيرة لدى الآخر. وطالما أمكن توجيه رسائل وإعادة ضبط المواقف والسياسات، فإن من الأفضل الاستمرار في ذلك، واحتواء ما يهدد بالخروج عنه.
هي دينامية تمكن كل طرف من مواصلة “لعبته” و”رهاناته” و”تفضيلاته”، حتى لو أوقعت الألم والخسارة لدى الطرف الآخر، لكن ليس بالقدر الذي يدفعه لرد يغير قواعد اللعبة أو فعل يمثل _بحد ذاته_ الحد الذي “تخفق” عنده اللعبة!
عندما نفذت المقاومة الفلسطينية هجوم السابع من تشرين الأول أكتوبر 2023، فقد عدت “إسرائيل” ذلك، إلى جانب هجمات حزب الله وأطراف عراقية ويمنية، نوعاً من تجاوز قواعد المواجهة، إلى الحد الذي هدد الأطر الموضوعية والإدراكية الحاكمة لتجاذبات ومواجهات الأطراف، وخاصة إيران و”إسرائيل”. وهذا _من منظور إسرائيل_ تجاوز لحدود “الإخفاق المتوقع”.
وإيران، من جهتها، تعد أن سياسات “إسرائيل” (والولايات المتحدة) في الإقليم، بما في ذلك الاعتداءات ضد الوجود الإيراني ومصالح إيران، وحتى الاعتداءات المتزايدة داخل إيران نفسها، وصلت إلى الحد الذي يصعب التكيف معه، وهي أيضاً نوع من تجاوز لحدود “الإخفاق المتوقع”.
وفي الختام، سوف ترد إيران على اغتيال رئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، بالقدر الذي يردع “إسرائيل” عن أفعال مماثلة. وأن تأكيد إيران تنفيذ “رد متناسب” تجاه “إسرائيل” لا يراد منه الدخول في مواجهة مباشرة أو مفتوحة، بل تأكيد حق إيران في الدفاع عن النفس، وهو إلى ذلك “تثبيتٌ” لـسياسات “الإخفاق المتوقع”.
الدكتور عقيل سعيد محفوض